مكة: نكهة الماضي - 17 يونيو 2021
2021-09-28 587
جميلةٌ مكة بكل تفاصيلها ماضياً وحاضراً.. ولكن تظل لماضيها نكهةٌ مميزة عنوانها: الألفة والتراحم والمسؤولية.
كان الترابط داخل الأسرة المكية قوياً جداً، وكان من المألوف أن تعيش الأسرة الكبيرة في بيت واحد، لكل زوجين غرفتهما الخاصة، ولكن الجميع يلتقي على مائدة الغداء والعشاء، الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء.
بل كان الترابط على مستوى الحي والشارع، ففي الأفراح والمآتم يقف أهل الحي وقفة صدق مع صاحب المناسبة فيكفونه الطبخ والخدمة والترحيب والرفد وسائر الأمور حتى ليوشك أن يكون مدعواً لا داعيًا!
وأكثر من هذا أن الجميع يشعر بمسؤوليته عن الجميع! فحين يغيب بعض المطوفين ستة أشهر عن مكة وهو يطوف ببلدان حجاجه فإن (جيرانه) يقومون لأهله مقام عائلهم، يقضون حوائجهم، ويشترون طعامهم، ويسألون عن حالهم.
وحين يقف الجار على سلوك خاطئ لابن جاره فإنه يباشر تعليمه وتأديبه وكأنه ولده، لا يتردد في ذلك، والابن نفسه يعلم أن كل (كبير) في الحي هو بمثابة والده، فيحترم الجميع ويصغي لتوجيهاتهم.
ومعظم الأسر المكية كانت تأخذ أبناءها بالعمل وتعلم الحرفة منذ سن مبكرة، شعارها في ذلك المثل المكي الشهير: (صنعة أبوك لا يغلبوك). ولذلك كان الأبناء في ذلك الزمن الجميل يتربون على تحمّل المسؤولية، ومباشرة الأعمال، ودخول معترك الحياة، وما زلت أذكر أنني في صباي -وأنا ابن التاسعة- كنت أجلس بعد الفجر على جرة الفول في محل والدي حتى إذا حان وقت الدراسة أخذت حقيبتي وانصرفت للمدرسة.
لم يكن هذا العمل صارفاً عن التعليم، بل كان جيل الآباء الأمي في معظمه أحرص شيء على تعليم جيل الأبناء، ولذلك ارتادوا المدارس، وتفوقوا، وجالسوا العلماء في حلقات الحرم، وأخذوا عن الكبار، وحازوا على الشهادات العليا، ومع ذلك باشروا عمل السوق، وتدربوا على المهن، وأتقنوا حرفة آبائهم وأجدادهم، واستقلوا بمصاريفهم وهم ما زالوا على مقاعد الدراسة.
ولأجل هذا التوارث في حمل المسؤولية حملت الأسر المكية ألقاباً تدل على مهنتها وعملها كالصباغ، والبيطار، والصيرفي، والنجار، والعطار، والقماش ... إلخ.
إن مكة كما أسلفت جميلةٌ بحاضرها وماضيها.. ولكن كثيراً من هذه القيم الرفيعة بدأنا نفتقدها للأسف، ضعف التواصل، وقل التكافل، وخف الإحساس بالمسؤولية لدى الأجيال الجديدة، وكلنا أملٌ أن ترجع الأمور إلى خير مما كانت عليه.
ولا أشك لحظةً.. أن لكل مدينة سعودية - كما لمكة - تاريخها الوضيء، وزمنها الجميل، ولكن تظل مكة قبلة الذكريات كما هي قبلة الصلاة.